مبادرة سلام الأسرى اليمنيين- قحطان نقطة اللاعودة؟

في الآونة الأخيرة، نشرتُ سلسلتين من التغريدات حيث ناشدتُ أنصار الله الحوثيين التحلي بروح المسؤولية الوطنية والتصرف كرُوّاد دولة بحق، وذلك عبر إطلاق سراح عدد من السجناء السياسيين في اليمن، وبالأخص السياسي البارز الدكتور محمد قحطان، القيادي في حزب "التجمع اليمني للإصلاح"، والذي انقطعت أخباره منذ اعتقاله قبل تسعة أعوام على يد أنصار الله.
استجاب الأستاذ عبد القادر المرتضى، رئيس لجنة شؤون الأسرى بجماعة أنصار الله، مشكورًا، لعرضي بأن أكون وسيطًا حياديًا بين الجماعة وحزب "التجمع اليمني للإصلاح" في قضية الأسرى والمفقودين. وقد رحب بدوري بهذا المسعى الحميد العميد يحيى كزمان، رئيس الوفد الحكومي المفاوض في ملف الأسرى، والذي عبَّر لي من خلال الصحفي القدير عصام بلغيث عن دعمه وتشجيعه الكاملين للمضي قدمًا في هذه الجهود، لا سيما فيما يتعلق بقضية الدكتور محمد قحطان.
وازداد حماسي لهذه المبادرة بفضل التفاعل الإيجابي الذي لمسته من النخب اليمنية بشتى توجهاتها وانتماءاتها الفكرية. فاستعنت بالله، وقررت الانخراط بكل طاقتي في هذه التجربة، وأعلنت لكلا الطرفين عن استعدادي التام للقيام بهذا الدور، مؤكدًا: "إذا كان الصحابي الجليل عبد الله حذافة السهمي –رضي الله عنه– قد قبَّل رأس قائد رومي صليبي مقابل إطلاق سراح الأسرى المسلمين، فإنني على أتم الاستعداد لتقبيل رؤوس جميع الساسة اليمنيين –وهم جميعًا مسلمون، والحمد لله– مقابل إطلاق سراح الأسرى من إخوتهم وأبناء وطنهم". وأود أن أوضح أنني لم أكن أعتزم أن تكون هذه الجهود وساطة بالمعنى الرسمي والدبلوماسي المتعارف عليه، بل أردتها مجرد مبادرة شخصية، وبادرة خير خالصة لا أكثر.
وقد فكرت مليًا في توسيع نطاق هذه المبادرة النبيلة، وذلك بإشراك شخصيات سياسية وقانونية عربية مرموقة، تتمتع بخبرة أوسع ومكانة أرفع مني، إيمانًا مني بأن ذلك قد يُضفي مزيدًا من الثقل على المساعي الحميدة، ويحث الطرفين على إبداء المرونة والتجاوب المطلوبين.
إلا أنني فضَّلت في هذه المرحلة الأولية عدم تشتيت الجهود، والاكتفاء بالتشاور وتبادل الآراء مع نخبة من أهل الرأي والحكمة، سواء من اليمن أو من خارجه. ثم استقر رأيي على البدء بمقترح بسيط ومحدود يهدف إلى استطلاع الآراء وكسر الجمود، واختبار مدى تهيؤ البيئة النفسية والسياسية لهذه المبادرة. فإذا ما تكللت هذه الخطوة بالنجاح، فسيكون ذلك مؤشرًا قويًا على وجود جدية ونوايا حسنة في الأيام القادمة، أما إذا أخفقت، فسأوفر وقتي وجهدي، ولا أُثقل على إخواني اليمنيين.. فالأجر على قدر النية، ونية المؤمن أبلغ من عمله.
أود أن أؤكد أنني لم أرفع الراية البيضاء هنا، بل لا يزال يحدوني أمل كبير في أن يتعامل الطرفان مع هذا الملف الحساس بمنطق رجال الدولة الذين يعوِّل عليهم شعبهم في التئام جراحه ورسم مستقبل مشرق له.
وعليه، تواصلت مع الطرفين، واقترحت عليهما كخطوة أولى تبادل المعلومات بشأن اثنين من أبرز الأسرى، وهما الدكتور مصطفى المتوكل من جانب أنصار الله، والدكتور محمد قحطان من جانب حزب الإصلاح، تمهيدًا لإطلاق سراحهما، على أمل أن يفتح ذلك الباب أمام تسوية شاملة تفضي إلى إطلاق سراح جميع الأسرى اليمنيين. وقد وقع اختياري على هذين الاسمين تحديدًا لأنهما شخصيتان أكاديميتان وسياسيتان تحظيان بالاحترام والتقدير، ولا تربطهما صلة مباشرة بالحرب والقتال. وقد صدرت تقارير عديدة عن منظمات حقوقية دولية، كمنظمة العفو الدولية وغيرها، تسلط الضوء على قضيتهما والظلم الذي لحق بهما. وبعد نقاشات مطولة مع الطرفين، هذا ما توصلت إليه، وأضعه اليوم أمام الرأي العام، اعتذارًا لله –تعالى– وتوضيحًا للموقف أمام الأحبة اليمنيين وغيرهم ممن علقوا آمالًا كبيرة على هذه المبادرة المتواضعة:
جاء رد الإصلاح/الشرعية إيجابيًا للغاية تجاه مبادرتي بشأن الدكتور محمد قحطان والدكتور مصطفى المتوكل، وذلك على لسان الشيخ هادي هيج، رئيس مؤسسة الأسرى من جهة الشرعية، ونائبه العميد يحيى كزمان. فقد أكدا لي –عبر الأستاذ بلغيث– أن الدكتور المتوكل بخير وبصحة جيدة، وأن أسرته على تواصل مستمر معه. بل وعرض عليَّ العميد كزمان –مشكورًا– التحدث مع الأستاذ المتوكل مباشرة متى أردت ذلك. ولكن عندما طلبت من الأستاذ عبد القادر المرتضى تزويدي بالحد الأدنى من المعلومات عن الأسير الذي تحت سيطرتهم، الدكتور محمد قحطان، ولو مجرد التأكيد بأنه لا يزال على قيد الحياة، لم أجد التجاوب الذي كنت أتوقعه، بل اعتبر قضية قحطان "أصعب نقطة في الملف".
ثم قام بربط القضية بشروط أخرى تتجاوز المقترح الذي تقدمت به، كتمكين جميع أسرى الأنصار من التواصل مع ذويهم، أو تحديد مصير مئة مفقود منهم، مقابل الكشف عن مصير شخص واحد، وهو الدكتور محمد قحطان! وقد أوضحت للأستاذ المرتضى أن رده هذا خيَّب أملي، وأنه بالرغم من أنني لا أشكك في شرعية مطالبه، إلا أنني أشك في حكمته السياسية. فلكل أسير الحق في معرفة مصيره والتواصل مع أسرته، ولكن المنطق العملي يقتضي البدء بنقطة محددة يسهل تحقيقها، ثم التدرج منها لحل المشكلة برمتها.
كما عبرت له عن وجهة نظري بأن المسؤولية الكبرى تقع على عاتق أنصار الله، لأنهم يسيطرون على مقاليد الأمور في الدولة. وذكرت له أنني لا أرغب في الاستسلام لليأس في بداية الطريق، وأرجو منه ردًا أكثر إيجابية. فما كان من الأستاذ عبد القادر –مشكورًا– إلا أن رد بمقترح مضاد، وهو إبرام صفقة تبادل صغيرة "لتلطيف الأجواء وتعزيز الثقة"، يتم بمقتضاها تبادل أربعمئة أسير، بواقع مئتي أسير من كل طرف، وتأجيل موضوع الدكتور قحطان إلى مرحلة لاحقة.
وقد استبشرت خيرًا بهذا العرض الذي تقدم به الأستاذ عبد القادر –بالرغم من خيبة أملي من موقفه في قضية قحطان– واعتبرت عرضه "مبادرة طيبة"، مؤكدًا أن هذه الجهود إذا نجحت في الإفراج عن شخص واحد فسيكون ذلك إنجازًا عظيمًا. وعندما نقلت مبادرة الأستاذ عبد القادر إلى طرف الشرعية/الإصلاح، كان ردهم أنهم يقبلون جميع عمليات التبادل، وبكل الأعداد، ولكن "بعد الاتصال بقحطان وتمكين عائلته من زيارته". وهكذا، عادت الأمور إلى نقطة البداية: لا تقدم في ملف الأسرى بالنسبة للشرعية/الإصلاح دون حل قضية الدكتور قحطان، ولا مرونة من طرف أنصار الله لحلها في الظروف الراهنة.
وقد أوضحت للطرفين بكل شفافية وصراحة أنني غير مقتنع بالمبررات التي قدمها كل منهما في هذا الشأن، سواء من المنظور الإنساني أو المنظور السياسي.
وبناءً على هذه المعطيات التي استعرضتها بأقصى قدر ممكن من الحياد والتجرد، أود أن أسجل بعض الملاحظات التقييمية لما حدث، والتي تمثل خلاصة رؤيتي الشخصية، ولا تلزم أيًا من الطرفين:
لقد خاب أملي في أنصار الله لرفضهم تقديم معلومات عن الدكتور قحطان. فإذا كان الرجل على قيد الحياة –كما نرجو ونتمنى– فالأجدر سياسيًا الكشف عن ذلك، وإدراج اسمه ضمن صفقة تبادل، خاصةً مع وجود الأمل في الدور الذي قد يساهم به في المصالحة اليمنية، نظرًا لمكانته السياسية. أما إذا كان قد توفي في السجن –لا قدر الله– فليس من الحكمة السياسية ولا من المروءة اليمنية جعل الكشف عن حقيقة وفاته موضوع تفاوض وصفقات. فهو أكاديمي وسياسي يمني، وليس جنديًا إسرائيليًا يمكن التستر على خبر وفاته –أو على وجود رفاته– من أجل تحرير أسرى المقاومة اللبنانية أو الفلسطينية من سجون الاحتلال.
إن العداوة بين الإخوة المتخاصمين سياسيًا لها حدود، وهي تختلف عن العداوة المفتوحة مع العدو الوجودي. وبالمثل، خاب ظني في جانب الشرعية/الإصلاح لرفضه صفقة التبادل البديلة التي عرضها الأستاذ عبد القادر المرتضى، والتي كان من الممكن أن تخفف معاناة أربعمئة أسير يمني. فالمنطق الإنساني الذي يجب أن يطغى في هذا النوع من الأمور يقتضي عدم تفويت فرص الإفراج عن الأسرى، أو تأجيل الإفراج عنهم، خاصةً إذا كانوا إخوة في الدين والوطن، وفي إطلاق سراحهم تهدئة للنفوس وتخفيف للعداوات، فضلًا عن إدخال السرور على أسرهم وذويهم. فكم من أم وأب وزوجة وأخت وأخ وابنة وولد كانوا سيفرحون لو تمت هذه الصفقة.
ولا أظن أن الدكتور محمد قحطان، وهو السياسي المحنك والإنسان ذو القلب الكبير، كان ليرضى بتأخير إطلاق سراح أربعمئة أسير يمني من أجل الكشف عن وضعه، أو حتى إطلاق سراحه شخصيًا. أخشى أن الطرفين قد تعاملا مع هذا الموضوع بدافع تسجيل النقاط على الخصم في حملات العلاقات العامة على وسائل التواصل الاجتماعي، أكثر مما تعاملا معه بدافع التخفيف من معاناة إنسانية أليمة يعيشها الأسرى اليمنيون وذووهم.
علمًا بأنني أرى –حتى من المنظور السياسي المجرد من العاطفة– أن الطرف الذي سيجمع السواد الأعظم من اليمنيين حوله ليس الذي لديه سطوة عسكرية أو قدرة على المناورة أو حلفاء يُعتمد عليهم.. بل الذي لديه رؤية سياسية وإنسانية رحبة، يرى فيها خصمه السياسي أخًا في الدين وشريكًا في الوطن.
وأخيرًا، فإني لا أرفع الراية البيضاء هنا، بل لا يزال يحدوني أمل كبير في أن يفكر الطرفان في هذا الموضوع بمنطق رجال الدولة الذين يعول عليهم شعبهم في تضميد جراحه وبناء مستقبله، بدلًا من التفكير كأطراف متناحرة في حرب أهلية عدمية، حولت اليمن إلى ساحة لألاعيب القوى الإقليمية والدولية، وتحولت مع الأيام إلى استنزاف عبثي للإنسان اليمني وحضارته ومستقبله. والله يعلم أنني أتمنى الخير من أعماق قلبي لجميع أهل اليمن، بكل مشاربهم السياسية ومذاهبهم الدينية، وأنني أتألم لما أصاب هذا البلد العريق من تمزيق وتقطيع أرحام، وهو البلد الجميل الذي عشت فيه أيامًا سعيدة، وحملت منه ذكريات باقية ما حييت.
لا أعتبر ما حدث خلال هذه الفترة القصيرة وساطة بالمعنى الحقيقي للكلمة، بل هي مبادرة شخصية متواضعة، حظيت بتفهم كريم من الأطراف اليمنية، ثم تعثرت بسرعة بمجرد أن اشتد الأمر.. ويكفيني أنها ساهمت في تحريك هذا الملف في الفضاء العام.
أسأل الله –تعالى– أن يشرح الصدور، وييسر الأمور، ويصلح ذات البين.
